بقلم صالح العَوْد
حين زُرْتُ أسرة الفقيد مؤخّرا وجدتُهم مُجْمعين كلهم على القول بوصفه لطول معاشرته ومشاهدة سيرته “الكتاب أولا …. والكتاب أخير…”.
لقد كان اكتشافي للمرحوم وتعرّفي عليه إذ لم ألتق به في حياته ولو مرة حين اقتنيتُ موسوعته الفذّة: (تراجم المؤلفين التونسيين) من مكتبة (البستان) بباريس، القريبة من المسجد الكبير في الدائرة الخامسة.
ولمّا قرأتُ الكتاب ـــ وهو يقع في خمس مجلدات ــــ وجدتُ هذا الرّجل العِملاق وهو مُعاق يُبْحر في عُباب بُحور المعرفة الواسعة، والثقافة الشاسعة بمختلف ألوانها وأنواعها. والغريب أنّ عملَه الجبار في تأليف تلك “التراجم“، والوقوف على “آثارهم“، وانتزاع “الشواهد“، واستخراج “المناقب“، وتحديد ما كتبوه بأقلامهم حصريًّا ليس بالهيّن، بل إنّه يتطلّب منه ـــ بلا منازع ـــ حركة دائبة، وتنقلا مستمرا، وصبْرا جميلا وطويلا في “تحقيق المعلومة” وأخدها من المصادر.
فهو لم يكن يفارق “المكتبة” ـــ وليس الحاسوب إذ لا عهْد له به ــــ إذ كانت خِدْن عقله وروحه طول حياته، وكانت سمره طول الليل، ورفيقته اثناء النّهار بلا انقطاع.
وحين أُصيب بقَطْع رِجْليْه بسبب اصابته بـ “مرض السُّكّري” لم يُفْزِعْه ذلك المصاب القاهر عن سلاسَة الحركة على طبيعتها، وإنّما قاوَمه بالصبر والثبات على المبدإ، ومواصلة الاعتكاف الدائم على القراءة والمطالعة والتحقيق والتقميش. مستعينا ـــ هذه المرة ــ بزوجته وأبنائه، الذين لا يتأخرون عن تقريب أي كتاب وتقديمه إلى يديه دون تأفف ولا تأخير.
ظل الأستاذ محمد محفوظ ثابتًا على نهج التأليف والتصنيف والتحقيق بلا كسل ولا ملل ولا خمول، إلى آخر اليوميْن الأخريْن مِن حياته الشامخة، بل كانت له أعمال أخرى بارّة يضيق المقام الآن ذكرها، لكن سوف يكتشفها القراء يومًا ما، كما اكتشفتُها أنا.
وأختم هذه “اللَّمحات” القصيرة عن شخصيّته بما ذكره في مقدمة كتابه: (جَوْلة بين الكتب /ص 5)، فقال: “… فهي نظرات في الكتب، وجولات بين رياضها، لا تخلو من صبر، ومشقّة، ومتعة، يستطيبُها مَن يهوى هذا اللون من الكتابة؛ والمقصد: خدمة التراث العربي، بما يستحقّ من عنايَة وتمحيص والله وليُّ التوفيق”.
توفي العِملاق المُعاق الأستاذ محمّد محفوظ بمدينة (صفاقس) دُرّة الجنوب التونسي بامتياز، سنة 1988 عن 67 عامًا رحمه الله وطيَّب ثراه.