بقلم صالح العَوْد / فرنسا
تحدثتُ في الحلقة (الرابعة / من خواطر رمضانية)، عن بعض مُعَلميَّ وأساتذتي في مجال التكوين العلمي من المرحلتين: (الابتدائية / والثانوية)، بمسقط رأسي، ثم غادرتُ الوطنَ الحبيب في أواخر عام (1969م)، أي: قبل خمسين عاما من اليوم، إلى عالَم أوْسع وأرحب في مجال التعليم والدراسة الجامعية..
كانت محطتي الثانية – بعد باريس – هي: بلادُ الشرقِ، وفيها نَهَلْتُ من حِياضِها، وعلى أَيْدِي أساتِذَتها الأخيار، وشيوخها الأبرار، ما يُسْتَشَفُّ ويُكْتَشَفُ، بَل وبكلّ ما هو جَدِيرٌ بأن يُوصَفَ حقَّ الوَصْف.
فَمِنْ أولئك النجوم الساهِرَة، في سماء العُلوم الظاهرة، ورِحابِها الباهِرَة، أُسْتاذي الجليل، وهو الكبير القَدْر عندي، ممّا ورّثني بعضَ عُلُومِه، ممّا حَفَزَني على مُلازَمَتِه في الصباح الباكر، وفي المساء: من العصر إلى العِشاء، مُدَّةَ (ثلاثِ سنواتٍ) متواصلة دونَ انقطاع..
كان أستاذي هذا رجلا عالِما حقّا، دقيقا في مسائل العُلوم، بصيرا برجالاته العظام، ومُصَنَّفَاته الجِسام، بحيث لا تَنِدُّ عنه شارِدَةٌ ولا وَارِدَةٌ، لذلك فإنك تجدُ (القَلَمَ) يُرافقه ويَحفَظه على الدَّوَام، في حال الجلوس أو القيام، وكأنّه يَمْتَثِلُ الآيةَ الكريمةَ ﴿ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾..
وهذه ابنَتُه الصُغرى السيدةُ فاطمةُ تَصِفُهُ قائلة: “أَهَمُّ عِبَارَةٍ أُسَجِّلُها تَصِفُ الوالدَ، وتَبْقى مُلازٍمةً معه، هي: أنّني رُبّيتُ في بَيْتٍ ينامُ ويَصْحو صاحبُه على الكتاب: إذا صَحَى فتحَ الكتاب، وإنْ جلس معه الكتاب، وإنْ اتَّكَأَ معه الكتاب، وإنْ طَعِمَ ففي ظِلَالِه، وإنْ شَرِبَ فبِمَعِيَّتِه…”.
وهذا صَدِيقُه الشاعِر أحمدُ عَسَلِيَّه، ممّن يُخالِطُه ويُجالسه، أتاهُ يوما وأنا عندَه، وقد حَمَلَ معه “ورقةً” كتب فيها: “هو أُسْتاذُنا الفاضلُ، الشيخُ أحمدُ بن عبدُ القادِر قلّاش: عالِمٌ.. لُغَوِىٌّ.. أديبٌ.. قويُّ الحُجَّة.. متينُ الأُسلوبِ.. حاضرُ البَدِيهَة.. ظَريفُ النُّكْتَة.. عميقٌ في فهمِ العِبارة، وقُوَّة الاستنباط.. غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ لقديمٍ أو حديث.. يَعْجَبُ بالشيء الجَيِّد عن أيّ إنسان صَدَرَ، مَهْما كانت هُوِيَّتُه ودينُه.. يَغْلُبُ على مَجْلسه: الأدبُ، والتواضعُ ودِقّةُ البحثِ، والتَّمَسُّكُ بِلُبَابِ الدِّين.. أُشَبِّهُه في ظُرْفِه بالشيخ: (عبد العزيز البِشْرِي)، وبِبَلَاغَتِه ودقَّته اللُّغَوِيَّة بالكاتب اللغوي، الشاعرُ الأستاذُ: (علي الجَارِم بِك)”.
لأُستاذنا الجليل أحمد قلّاس رحمه الله وطيّب ثراه (مُؤَلَّفاتٌ) كثيرة، وأغْلَبُها مُخْتَصَرَة، وهذه عَيِّنَاتٌ منها على سبيل الذِّكْرِ وليس الحَصْرِ:
- جنَّةُ آدَمَ
- من مَوَاطِن العبرة في قصّة يوسُفَ
- مِنْ كُنوزِ الإسلام
- عِزّ العرب: محمد ﷺ
- مِنْ روائع القَصَص النبوي الصحيح
- مِنْ أنفع الدروس في تهذيب النفوس
- سُلَّمُ الأطفال إلى بلوغ الكمال
- مِنْ آداب الإسلام في المجتمع
- تَيسير البَلاغة
- محمّد رسول الله ﷺ
- تفسير جزء ﴿عَمَّ﴾
وهو آخر ما ألَّفَه في مَهْجَرِه، ولذلك كتب أسفل اسمه: (نزيل المدينة المنوّرة).. وفيها توفي إلى رحمة الله تعالى في (9 رجب 1429ه= 8 جويلية 2008م)، ودُفن بالبقيع الغَرْقَد إلى جوار حبيبه (محمّد) ﷺ.. رحمه الله تعالى رحمة الأبرار، وأسكنه جنّات تجري من تحتها الأنهار.