بقلم الأستاذ صالح العَوْد

فَشَتْ في أَوْساطِ مُسْلِمي عَصْرِنا: فاشِيَةٌ شَنيعَة، وَبِدْعَةٌ فَظِيعَة، تَمَسُّ كِتابَ اللهِ الْعَزيزَ، وَتُهَدِّدُ رَسْمَهُ الْخالِدَ العَظيمَ، الّذي كُتِبَ بِهِ مُنْذُ القُرونِ الأُولى الخَيِّرَة، وتُحْيي في الأُمَّةِ الإسْلاميَّةِ “فِتْنَةً” أَشْبَهَ بِتِلْكَ الّتي حَدَثَتْ على عَهْدِ عُثْمانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَيْ: “الاخْتِلافُ في الْمَصاحِف”.

وَلَوْلا أنْ مَنَّ الله تَعَالى على الْمُسْلمين، بِأَنْ أَلْهَمَ سَيِّدَنا عُثْمانَ لِإِخْمادِ تِلْكَ الْفِتْنَة، وذَلِكَ بِجَمْعِ الأُمَّةِ على “مُصْحَفٍ واحِدٍ” وَهُوَ الّذي عُرِفَ بِـ “الْمُصْحَفِ الإمَام”، وعَلى “رَسْمٍ وَاحِد“، والّذي أُطْلِقَ عَليْه: “الرَّسْمُ العُثْمانيُّ“، لَبَقِيَ كِتابُ الله أُلْعوبَةً بِأَيْدي البَشَرِ في كُلِّ زَمانٍ وَمَكان، وحَقْلًا للتَّجاربِ، كُلَّما عَنَتْ لِإِنْسانٍ فِكْرَةٌ؛ وهِي نفسُ الْغايةِ الّتي حَدَتْ بِمَرْوانَ بْنِ الْحَكَم –وكانَ يَوْمَئِذ أميرًا على الْمَدينةِ المُنَوَّرَة مِنْ قِبَلِ مُعاوِيةَ- حَيْثُ أَرْسَلَ بالْعَزيمَةِ إلى عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَشِيَّةَ دَفْنِ أُمِّ الْمُؤْمِنين حَفْصَةَ رضي الله عنها: لَيُرْسَلَنَّ إِلَيْه بِـ “الصُّحُف“، فَأَرْسَلَ بِها إِلَيْه عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ رضي الله عَنْه، فأَمَرَ بِها مَرْوانُ فَشُقِّقَتْ، وفي رِوايَة: “فَمُزِّقَتْ“، وَفي رِوايَةٍ: “فَشَقَّقَها وحَرَّقَها”، وفي رِوايةٍ: “فَغَسَلَها غَسْلًا“، وقال: “إِنَّما فَعَلْتُ هَذا لِأَنّي خَشيتُ إِنْ طالَ بِالنّاسِ زَمانٌ، أَنْ يَرْتابَ في شَأْنِ هَذِهِ الصُّحُفِ مُرْتابٌ“.

وَمَرْوانُ يَسْعى بِذلِكَ إِلى قَطْعِ دابِرِ “فِتْنَةِ الاخْتِلاف” وَلَوْ بِإِعْدامِ “الصُّحُفِ الأَصْلِيَّةِ” التي ظَلَّتْ مَحْفوظَةً عِنْدَ الْخَليفَةِ أَبي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ الله تَعَالى، ثُمَّ عِنْدَ الْخَليفَةِ عُمَرَ حَياتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ السَّيِّدَةِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ أُمِّ المُؤْمِنينَ بَعْدَ وَفاةِ أَبيها، وَخَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ لِأَحَدٍ –على مَرِّ الْعُصورِ أَوْ تَعاقُبِ الأَجْيَالِ- تَوَهُّمٌ: بِأَنَّ فيها ما يُخالِفُ الْمُصْحَفَ الذي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحابَةُ، وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَيْهِ، واسْتَقَرُّوا عَلَيْهِ آخِرَ الْأَمْر.

بَلْ إِنَّ عُثْمانَ بنَ عفّان رضي الله عنه أَكْرَهَ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعودٍ عَلى رَفْعِ مُصْحَفِهِ وَمَحْوِ رُسومِهِ –لَمّا أَرادَ ابنُ مَسْعود أَنْ يُؤْخَذَ بِمُصْحَفِهِ- فَلَمْ تَثْبُتْ لَهُ بَعْدَ ذلك قِراءةٌ أَبَدًا، وكان كما قالَ القَاضِي أبو بَكْرٍ بنُ الْعَربي: “وَنَصَرَ الله عُثْمانَ والْحَقَّ بِمَحْوِها مِنَ الْأَرْضِ“.

أَمَّ بِدْعَةُ هذا الْعَصْرِ فَهِيَ تَتَمَثَّلُ في: “تَغْييرِ رَسْمِ القُرْآنِ الكَريم وَاسْتِبْدالِ كِتابَتِهِ بِكِتابَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، أَعْني بِحُروفٍ أَجْنَبِيَّةٍ: لاتينِيَّةٍ أَوْ أَعْجَمِيَّةٍ“.

أَمّا الّذين يُمارِسونَهُ فَهُمْ –لِلْأَسَفِ- ناسٌ مِنْ بَني جِلْدَتِنا، وَيَتَكَلَّمونَ بِأَلْسِنَتِنا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُم يُحْسِنونَ صُنْعًا، مُدَّعينَ أَنَّهُمْ يُسَهِّلونَ قِراءَةَ الْقُرْآنِ على الّذين يَجْهَلونَ اللُّغَةَ الْعَرَبيَّة، أَوِ الّذين يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمُ النُّطْقُ بِاللِّسانِ الْعَرَبِيّ مِمَّنْ دَخَلُوا في الْإسْلامِ حَديثًا.

ومِمَّا يُؤْخَذُ على تِلْكَ الْكِتاباتِ الآثِمَةِ، والنَّماذِجِ الْمُحَرَّفَةِ لِآياتِ اللهِ الْكَريمَةِ وسُوَرِهِ الْبَيِّناتِ ما يَلي:

1. تَغْييرُ كِتابَةِ القُرْآنِ الْكريمِ مِنَ “الرَّسْمِ الْعُثْماني الْعربي” إلى حُروفٍ أُخْرى لا صِلَةَ لها بِالْحَرْفِ الْعَرَبي، لا مِنْ قَريبٍ ولا مِنْ بَعيدٍ، وَهُوَ الْحرْفُ الواحِدُ الذي اصْطَبَغَ بِهِ النَّصُّ القُرْآنِيُّ مُنْذُ نُزولِهِ، وَهِيَ خُطْوَةٌ بالِغَةُ الْخُطورَةِ، حَيْثُ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْها أَحَدٌ كائِنًا مَنْ كَانَ في الْأَزْمانِ الْمُتَقَدِّمَةِ: لا الرَّسولُ الكريمُ صلّى الله عليه وسلّم في مُراسَلاتِه مَعَ مُلوكِ فارِسَ وَالرُّومِ، ولا الصَّحابَةُ في مَهاجِرِهِمْ خارِجَ الْجَزيرَةِ الْعَرَبيَّة، ولا السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ التَّابِعينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، بَعْدَ أَنْ دَخَلَ النّاسُ في دينِ الله أَفْواجًا مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، عَرَبًا وَعَجَمًا.
2. اجْتِهادُ كُلِّ كاتِبٍ كَما يَحْلُو لَهُ أَوْ يَرْتَئِيهِ، دونَ رَقابَةٍ أَوْ مَرْجِعِيَّةٍ، وهَذا مِمَّا يُعَمِّقُ هُوَّةَ الْخِلافِ، سَواءٌ في “الكِتابَةِ” أَوْ عِنْدَ “الْقِراءَةِ” عِلْمًا أَنَّ الْخِلافَ في الْكِتابَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُوَرِّثَ الاخْتِلافَ في الْقِراءةِ، وَهُوَ الشَّيءُ نَفْسُهُ، الّذي عَمِلَ عَلَى إِبَادَتِهِ الْخَليفَةُ عُثْمانُ رضي الله عنْه، ووافَقَهُ على ذلكَ الصَّحابةُ، وَهُوَ الشَّيءُ نَفْسُهُ الذي أَقْدَمَ عَلَيْهِ مَرْوانُ بْنُ الْحَكَمِ في خِلافَتِهِ أَيْضًا بَعْدَ كَذا سَنَةٍ مِمَّا قامَ بِهِ سَيِّدُنا عُثْمانُ رضي الله عنه.
3. واجِبُنَا نَحْوَ الذي أَسْلَمَ حَديثًا أَنْ نُعَلِّمَهُ ونُعَرِّفَهُ الْعَرَبِيَّةَ لِيَسْتَكْمِلَ فَرْضَ عَيْنِهِ: كَالنُّطْقِ السَّليمِ بِالشَّهادتَيْنِ، وَقِراءةِ الْفاتِحَةِ وسورَةٍ ولَوْ قَصيرَةٍ، لِتَكْمُلَ صَلاتُهُ، فَمَا لا يَتِمُّ الْواجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ واجِبٌ، وهَكَذا كانَ يَفْعَلُ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مَعَ مَنْ يُسْلِم، وكذلك الصَّحابَةُ مِنْ بَعْدِه. يقولُ الإِمامُ الشَّافِعِيُّ في كِتابِهِ (الرّسالةُ ص.48): “على كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ لِسانِ العَرَبِ ما بَلَغَهُ جُهْدُهُ، حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وَيَتْلوَ بِهِ كِتابَ اللهِ، وَيَنْطِقَ بِالذِّكْرِ فيما افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْبيرِ، وأُمِرَ بِهِ مِنَ التَّسْبيحِ والتَّشَهُّدِ، وغَيْرِ ذلكَ”.
4. لَوْ تَمادى الْحالُ في كِتابَةِ الْقُرْآنِ بِحُروفٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ حَتَّى نِهايَةِ الْمُصْحَفِ كُلِّهِ، فَسَتُصْبِحُ هُناكَ أَعْدادٌ هائِلَةٌ مِنْ نُسَخِ الْقُرْآنِ الْمَكْتوبَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ في عِدَّةِ لُغاتٍ، بَلْ وفي اللُّغَةِ الْواحِدَةِ عَشَرَاتٌ مِنَ النُّسَخِ، بِحَيْثُ نَجِدُ أَنَّ كُلَّ نُسْخَةٍ تَخْتَلِفُ عَنِ الأُخْرى “كِتابَةً” و”نُطْقًا“، وبِطولِ الزَّمَنِ يَتَلاشى هذا المُصْحَفُ الأَصْلِيُّ لا سَمَحَ اللهُ وهُوَ ما حَصَلَ لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ.
5. في قِراءةِ القُرْآنِ الكريمِ بِالْحُروفِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَسيلَةٌ إلى إِبْطالِ الرَّغْبَةِ عِنْدَ غَيْرِ العَرَبِ في تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ التي يُعْتَبَرُ القُرْآنُ الْكَريمُ الْوِعاءَ الْأَوَّلَ لَها.

في تَرْخيصِ الْقَليلِ مِنْ كِتابَةِ الْقُرْآنِ الْكَريمِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ تَشْجيعٌ عَلى كِتابَةِ الْكَثيرِ مِنْهُ، بَلْ قَدْ يَسْتَمِرُّ حَتَّى نِهايَتِهِ، ثُمَّ حَدِّثْ ولا حَرَجَ عَنْ كَثْرَةِ السَّقَطاتِ، وَالْمُصْطَلَحاتِ الْمُفْسِدَةِ لِلْقِراءَة